يمرّ الإنسان في حياته- على مدى الأيام والسنين- بتجارب كثيرة، بعضها جيد، وبعضها سيئ، ولكنّها كلها مصدر مهم من مصادر المعرفة والخبرة، فهي التي تكوّن رصيده الشخصي من الأفكار والمبادئ، فتعكس رؤيته الذاتية للحياة، وترسخ في فؤاده القيم والمعتقدات التي تمثل دستوره وفلسفته وقناعاته· ولكنّ الناس يختلفون اختلافا عظيما في تجاربهم، وفي مدى استفادتهم من خبراتها، فبعضهم يتعلم، وبعضهم يزداد جهلا على جهل، وبعضهم يتعلم ولكنه يتجاهل ما تعلمه، تدفعه إلى ذلك دوافع وأسباب كثيرة لا حصر لها ولا عدّ·
إنّ المواقف التي يتخذها الإنسان إزاء ما يمرّ به من تجارب، وما يحدث له من أحداث، تعبر كثيرا عن طبيعته وشخصيته ومبادئه، وتكشف عن معدنه، وترينا منه ما لا يرينا منه القول· فقد يقول أشياء، ويفعل ما يناقضها، فعلى أيّ الأمرين نعتمد للحكم على هذا الشخص؟ لا شكّ أنّ الأفعال تأتي قبل الأقوال، فلا شيء أسهل من الكلام على الناس، ولكنّ الفعل هو المحك الذي تختبر فيه الرجال، وتمتحن فيه الضمائر، وتنجلي به مبهمات الأمور· ونحن إذا تأملنا أفعال الناس، والمواقف التي يتخذونها وجدناها مادة غنية تنبئنا عن سرائر النفوس، ومعادن البشر، وتعطينا مؤشرات دقيقة نقيس بها حكمتهم وبصيرتهم، أو جهلهم وعماهم· فالعمى والبصيرة هنا، هما عمى القلب أو بصيرته· ولا دليل عليهما إلا ما يأتيه المرء من أمور، وما يفعله من أفعال· واللافت للنظر أنّ اللغة تدهشنا أحيانا بما توحي به من إيحاءات، وما تشير إليه من إشارات، قد لا ننتبه إليها في بادئ الأمر، ولكنّ التدقيق في أسرارها، وما تكتنزه من دلالات في ألفاظها قد يمنحنا قدرا من الفطنة والحكمة والتبصر، فالعمى – في العربية – واحد للعين والقلب، نقول هو أعمى العين، وأعمى القلب، وهو أعمى البصر، وأعمى البصيرة· أما البصر فهو بصر وبصيرة، نقول: هو مبصر العين، بصير القلب· والإبصار للعين، والبصائر للقلب· فكأن اللغة تقول: إنّ العمى- وهو ذهاب النظر- واحد، سواء كان ذلك في العين أم في الفؤاد· فكلاهما سبيل إلى الضلال، أي أن يضل المرء طريقه، طريق خطواته، أو طريق حياته· أما البصر فمختلف، بصر بالعين، وإبصار بالفؤاد، وليس الأول كالثاني· فالأول يقود خطوات المرء ويريه الكون من حوله، فلا يتعثر ولا يحرم متعة النظر إلى الأشياء من حوله، ولكنّ الثاني هو الذي يوجهه في حياته فيحميه من السقوط في مدارك الشر أو الزيف أو الخداع·
فكم من مبصر فقد البصيرة فقاده عماه إلى الهاوية! وكم من أعمى رزق البصيرة فسلك طريق العارفين! وكم تكون المصيبة كبيرة حين يكون المرء أعمى العين والقلب! وكم تكون النعمة عظيمة حين يكون المرء مبصر العين بصير الفؤاد!
ولا شك أنّ عمى العين قدر يقدره الله على من يشاء من عباده، فلا أحد يختار أن يحرم نعمة النظر، ولكنّ عمى الفؤاد ليس قدرا، بل هو اختيار·
فالإنسان – في معظم أحواله- يختار – بوعي أو من دون وعي- أن يكون أعمى الفؤاد· ولذلك لا يحاسَب الإنسان على الأول، ولكنه – بلا شك- يحاسَب على الثاني· وكم من الناس يختار العمى على البصيرة، وهو يظنّ أنه قد أحسن صنعا! وكم من الناس يستجيب لمغريات الحياة أو بريقها الأخاذ، فيرى الخير في الشر، ويرى الشر في الخير، فيمعن في تزييف الحقائق، وتجميل الرديء، لأنه يرى المكاسب القريبة، ولكنه لا يبصر الخسائر البعيدة· وكم من الناس أضاع الدليل، واختلطت في نفسه الأشياء! فهو يرى بقلبه الصواب فلا يفعله، ويرى الخطأ ويقدم عليه· فمن منّا لم تعمَ بصيرته يوما؟ ومن منا لم تزلّ به القدم؟ فالزلل أو الخطأ لا يقعان إلا في لحظة يفقد الإنسان فيها بصيرته، والرجوع عنهما، أو الندم عليهما، أو تصحيحهما إعلان بعودة النور وانجلاء الظلام· ولكنّ الظلام قد يطول، بل إنه أحيانا لا ينجلي، فيعيش الإنسان حياته كلها في عمى، فلا يذوق لذة البصيرة، ولا يهتدي بنورها·
وقد يظنّ كثيرون منا أنهم في منأى عن عمى البصيرة، وأنهم مهتدون، وهؤلاء لم يمنحوا أنفسهم فرصة التفكر في حياتهم، ولا إمعان النظر في أنفسهم، ولا تأمل الكثير مما يقدمون عليه من أفعال، هي في الحقيقة مؤشر حساس، يشير إلى عماهم، وسيرهم في طريق يأبى أن يسير فيه أصحاب البصيرة النافذة، والضمير الحيّ، والفؤاد اليقظ·
فالمسؤول الكبير الذي تنكشف له حقائق كثيرة في مجال عمله تعكس جوانب قصور واضحة، وأخطاء متكررة ثم يؤثر الصمت والتجاهل على التصريح بواقع الحال خوفا على منصبه أو تقديما لمصلحته الشخصية على مصلحة العمل يختار العمي على البصيرة، والموظف الذي يقبل الأعطيات من هذا وذاك، فيمرر لهما أوراقهما، ويسهل لهما الحصول على ما يطلبانه، وإن كان في ذلك مخالفة صريحة للقانون يختار العمى على البصيرة· والمربي الذي يؤثر السلامة و"يبعد نفسه عن المشاكل"، فيمنح تلاميذه ما لا يستحقونه من درجات، أو يحتال على الأمر فيسهل لهم الامتحان، بحيث يغدو الأمر لعبا على العقول، بعد أن كان تعليما وتنمية لها، يختار العمى على البصيرة· والمرؤوس الذي ينافق رئيسه، فيكيل له المدح الكاذب، ويسكت عن كل الأخطاء التي يراها ويعرفها سكوت الشيطان، ولا يبادر بقول الحق يختار العمى على البصيرة· وطالب العلم الذي يدفع الآلاف ليشتري شهادة الدكتوراه يتباهى بها بين أقرانه، ويتعاظم بها عليهم، ويستخدمها مصدرا من مصادر القوة والتسلط والإذلال يختار العمى على البصيرة· والرجل الذي يزور في أوراقه بغية الحصول على وظيفة أو ترقية أو مكسب قريب يختار العمى على البصيرة·
والتاجر الذي يمارس في تجارته أشكالا شتى من الكذب والتزييف والغش والسيطرة على الأسعار بغير وجه حق إلا وجه الطمع والشره يختار العمى على البصيرة· والأمثلة – بعد ذلك – كثيرة كثيرة· فالعمى ليس فقط ذهاب نظر العين، بل هو أيضا ذهاب نظر القلب· وإن كان الأول قليلا، فإن الثاني لا عدّ له ولا حصر· يكفي فقط أنْ نعطي أنفسنا فرصة التأمل في يوم واحد من أيام حياتنا· وقديما قال الشاعر: وليس العمى أن تفقد العين نورها ولكنه نور العقول إذا استتر
ولا أصدق من قول خالق البشر، العليم بخفايا النفوس إذ يقول: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)·
- ______.rar (9.6 كيلوبايت, 45 مشاهدات)