الناظر في الواقع الثقافي في الوطن العربي في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا العربية يستشعر أهمية النظر في موضوع «السياسات العربية»، ويحمد للمهرجان الوطني للتراث والثقافة تناوله ضمن فعاليات هذه الندوة التي تتناول أيضاً «التقنية والبحث العلمي» و «الإعلام والهوية وأسس إصلاح التعليم». أعرب عن سعادتي بأن أشارك في هذه الندوة مع مديرها الأستاذ خالد المالك والدكتور أحمد زويل والأستاذ غازي العريضي والأستاذ الدكتور محمود سفر. نحن مدعوون إلى إثراء الحوار في هذه الندوة بالآراء وإبراز إشكاليات الموضوع المطروح. أول ما يتبادر إلى الذهن إشكالية تعدد السياسات الثقافية الموجودة اليوم في وطنناالعربي الواحد، الأمرالذي يدعونا إلى استحضارها وتصنيفها ومن ثم إلى النظر في مضامينها بنظرة نقدية. يمكننا أن نميز وجود سياسات ثقافية قطرية عربية رسمية، تحكمها دائرة الانتماء في الدولة القطرية العربية. وتقوم على وضع هذه السياسات وإعدادها وتنفيذها وزارات الثقافة في الدول بالتعاون مع وزارات أخرى. هل نستطيع أن نميز إلى جانب هذه السياسات القطرية العربية الرسمية وجود سياسة عربية ثقافية جامعة تتبادل التأثير مع السياسات القطرية؟ الجواب في رأيي نعم. وقد روى أبو خلدون ساطع الحصري قصة هذه السياسة وخطوطها في كتابه «ثقافتنا في جامعة الدول العربية» (الذي نشر لأول مرة عام 1964) وتستحق هذه السياسة وقفة منا. نستطيع أن نميز أيضاً في هذه المرحلة وجود سياسات خارجية ثقافية موجهة إلى الوطن العربي بهدف التأثير الثقافي عليه تتجلى في مجالات التعليم والترفيه والتثقيف بعامة. نستطيع أيضاً ونحن نمعن النظر في نشاطات «المجتمع المدني» في الوطن العربي أن نميز وجود سياسات ثقافية تعبر بدرجات متفاوتة عن التيارات الثقافية الموجودة في الوطن العربي، وهذه لها وسائلها في تعميم هذه السياسات في دوائرها. فمثلاً نجد للتيار المتمسك بالتراث سياساته شأن التيار المقبل على التغريب شأن تيار الاستجابة الفاعلة. نستشعر الحاجة هنا إلى التحديات التي تواجهها الثقافة العربية في هذه المرحلة وهي مجابهة التحدي الاستعماري، وإنهاء الاحتلال الصهيوني، والتوظيف الأمثل للثروات والموارد العربية، والتوزيع العادل لأعباء التنمية وعوائدها، وتحقيق الأمن الغذائي، وتأصيل دور الأسرة، والتوظيف التنموي للإعلام والاتصال الجماهيري، وتعميم اللغة العربية وتطويرها. وقفة أمام السياسة الثقافية العربية الجامعة التي تنتمي إلى الوطن العربي كله: لقد جاء في كتاب ساطع الحصري أن الشؤون الثقافية كانت الثالثة من بين القضايا التي يجب على الدول العربية التعاون فيما بينها تعاوناً وثيقاً بحسب نظم كل دولة منها، وقد نصت المادة الرابعة من ميثاق جامعة الدول العربية على أن تكون اللجنة الثقافية هي إحدى هذه اللجان الست التي تألفت. ويذكُر ساطع الحصري أن هذه اللجنة كانت أسبق اللجان إلى العمل الجدي خلال السنوات الأولى من تأسيس جامعة الدول العربية، وقد وضعت مشروع معاهدة ثقافية كانت الأولى بين الاتفاقات التي تم عقدها بين دول الجامعة العربية. لافتٌ في مشروع المعاهدة الثقافية أنه نص على أن تنشأ أداة دائمة لتحقيق التعاون الثقافي بين الدول العربية تتألف من لجنة عامة ومكتب دائم، وهي تختص ببحث نواحي التعاون الثقافي. ويعلق ساطع الحصري على إبرام هذه المعاهد الثقافية بأنها لا تقتصر على تقوية العلاقات الثقافية بين الدول العربية، كما هو المعتاد بين الدول الأوروبية والأمريكية، بل إنها تتعدى ذلك إلى غاية أسمى وأوسع وهي تقريب وتوحيد نظم التعليم في مختلف البلاد العربية وضمان تعاون جميع الدول العربية في سبيل تكوين ثقافة عربية موحدة تستمد قوتها من تاريخ الأمة العربية، وتغتني بجميع مكتسبات العلم الحديث ومكتسبات الحضارة العلمية. ويقول ساطع الحصري وهو يقدم حولية الثقافة العربية الأولى عام 1949 إن «مفكري الشعوب العربية يلاحظون أن الظروف السياسية التي سيطرت على هذه الشعوب منذ مدة باعدت بين نظمها التعليمية تباعداً غريباً. وأوجدت في شؤونها الثقافية الشيء الكثير من البلبلة والفوضى. وأصبح من واجب الدول العربية بعد أن نالت استقلالها السياسي وصارت سيدة شؤونها العامة أن تعمل عملاً متواصلاً لإزالة هذه الفروق الموروثة من الأوضاع السياسية الماضية، وأن تسعى بكل الوسائل الممكنة وراء تكوين ثقافة عربية عصرية موحدة. ترى إلى أي مدى حدث التقدم لتحقيق هذا الهدف خلال ثمانية وخمسين عاماً؟ مفهوم الثقافة: إن لنا ونحن نعرض إلى حديث السياسات الثقافية العربية الراهنة أن نستذكر بإيجاز مفهومنا للثقافة. وقد عرضناه في كتابنا «عرب ومسلمون وعولمة» (الصادر عام 2024) وقلنا فيه الثقافة في أبسط تعريفاتها هي «مجموع عناصر الحياة الحياة وأشكالها ومظاهرها في مجتمع من المجتمعات»، فهي إذاً «جماع حياة المجتمع»، يكتسبها الفرد من مجتمعه، وينميها بجهد عقلي داخلي وبعلم يتخصص فيه، فيتأدب على حد تعبير أجدادنا آخذاً من كل علم بطرف، ويعتز المجتمع بثقافته التي يتفرد بها لكونها نتاج امتزاج فكري نفسي عاطفي يوجه الإنسان، كما لاحظ د. أذرشب في ندوة التعاون العربي الإيراني، ويمكن أن نضيف «وروحي» أيضاً. وقد قدر أحد الباحثين الغربيين «ميردوك» وجود ثلاثة آلاف ثقافة في عالمنا كما أورد هاري شابيرو في كتابه «نظرات في الثقافة»، وثقافة مجتمع ما تصور كما لاحظ ويل ديورانت في موسوعته قصة الحضارة «عملية الانتخاب الطبيعي الذي تقوم به تجارب لا حصر لها..؛ كما تصور حكمة الأجيال التي تعاقبت في المجتمع فتجمعت تراثاً غزيراً. «ويلاحظ العلماء أن للدين تأثيراً قوياً على الثقافة، شأن اللغة. وانطلاقاً من هذا التعريف يمكن أن نتحدث عن «ثقافة النوبة» مثلاً في وادي النيل، ومثيلاتها هنا وهناك في عالمنا، باعتبارها «ثقافة محلية» وعن «ثقافة قطرية» هي جامع للثقافات المحلية. كما لاحظنا أن الحديث عن الثقافة وثيق الصلة بالحديث عن الحضارة إلى درجة وقوع البعض بالخلط بينهما ورأينا أن لكل منهما مفهومه. وهذا ما توصل إليه قسطنطين زريق في كتابه الجامع « في معركة الحضارة» بشأنهما من خلال دراسة متأنية. والرأي الغالب المعتمد اليوم هو أن لكل منهما مفهومه وإن كان المفهومان متصلين. وقد أوردنا في كتاب «عرب ومسلمون وعولمة» تعريف الحضارة. ولاحظنا أن هذا التعريف يجعل الحضارة تضم في داخلها عدداً من الثقافات القطرية في «جامع مشترك»، تفاعل الإنسان فيه مع المكان والزمان. وأسهم في بناء الحضارة عنصر الدين بما وفره من رؤية كونية، وعنصراللسان الجامع المشترك. إلى جانب عنصرالتقاليد والنظم والقيم في دائرة واسعة ينتمي الجميع إليها حضارياً. ووقفنا في الكتاب أيضاً أمام مصطلح العمران الذي اقترحه ابن خلدون في مقدمته لدلالة على نمط الحياة بوجه عام وشرحناه ودعونا إلى إعادة تعميمه ليكون الحرص على التغيير الإيجابي الذي يضع نصب عينه التعمير ويتجنب التخريب. رأينا أن هذه المصطلحات الثلاثة «الثقافة والحضارة والعُمران» توضح معالم مصطلح الدائرة الحضارية التي أولاها عناية أرنولد توينبي في كتابه «دراسة في التاريخ» وشرحنا عناصرها. نستذكر هذا كله كي نوفر لأنفسنا رؤية محيطة بالسياسات الثقافية العربية التي تتعامل مع الدائرة القطرية والدائرة القومية والدائرة الحضارية والدائرة الإنسانية جمعاء. في السياسات الثقافية العربية الراهنة: مستذكرين ما أوردناه بشأن تصنيف هذه السياسات نقف هنا أمام الموضوعات المطروحة والقضايا المتصلة بها لنلاحظ أن علاقة المثقف بالسلطة هو أحد هذه الموضوعات وقد تناولته بحوث كثيرة ضم عددا منها كتاب «الثقافة والمثقف في الوطن العربي» (الصادر عن مركزدراسات الوحدة العربية)، ومنها موضوع «الإبداع الثقافي» وموضوع «الثقافة العربية بين الوحدة والتكامل»، وموضوع «التجدد الثقافي»، وموضوع «الالتحام بين العلم والثقافة»، وموضوع «الثقافة السياسية وأزمة الديمقراطية»، وموضوع «التبعية السياسية والتبعية الثقافية»، وموضوع «أزمة التنوير في المشروع الثقافي العربي المعاصر». وهذه وغيرها موضوعات تجد السياسات الثقافية العربية نفسها مدعوة إلى الانشغال بها. واضح أن أي تناول للسياسات الثقافية العربية المعاصرة يقتضي ملاحظة ما طرأ من تطور هائل على صعيد الاتصال الثقافي بفعل ثورة الاتصال. وكم يبدو البون شاسعاً بين ما كان عليه الحال عند بداية التعاون الثقافي العربي الذي شرحه ساطع الحصري وما عليه الحال اليوم على صعد الإذاعة والتلفزة والقنوات الفضائية والكتاب وغيرهم. وهذه جميعها يجب أن تؤخذ في الاعتبار أثناء وضع هذه السياسات. لافتاً للنظر أنه على الرغم من نزوع الدولة القطرية إلى إثبات وجودها وعلى الرغم من تخطيط قوى الهيمنة للغزو الثقافي في بلادنا، فإن النزوع إلى التعاون الثقافي العربي لا يزال قوياً يرتوي من مكونات الثقافة العربية المتوارثة عبر قرون، ويحتمي في الوقت نفسه بهذه الثقافة لكي يحافظ على ذاته وهويته، ولذا فإننا نجد تعبيرات مستمرة عن هذا النزوع، وكذلك نجد صوراً للتعاون الثقافي العربي ومن أمثلته اعتماد عاصمة ثقافية عربية في كل عام، الأمر الذي يتيح الفرصة للتعرف الأعمق على الثقافات العربية. نستشعر الحاجة هنا إلى التأكيد على أهمية احترام جميع الثقافات العربية المحلية في إطار الاعتزاز بالثقافة العربية الواحدة بما تحفل به الثقافات المحلية من غنى. كما يعني احترام ثقافات الأقوام في وطننا الكبير واحترام ألسنتهم في إطار خطط مدروسة. وبعد… إن لنا في ضوء ما سبق أن نتطلع إلى سياسات ثقافية عربية تعبر عن الغد المأمول وتنطلق من بصيرة تشوف المستقبل وتحقق انطلاقة ثقافية. الثقافية: * انتقل الى رحمة الله تعالى في نهاية شهر ديسمبر الماضي الدكتور أحمد صدقي الدجاني.. وربما تكون هذه الورقة هي آخر ما كتبه، حيث اعتذر في آخر لحظة عن حضور مهرجان الجنادرية التاسع عشر التي كان مقرراً إلقاؤها فيه |